به نام حضرت باران
ملیحة مسلمانی (+)
مقام المحبة عند ابن عربی أربعة ألقاب: الحبّ، وهو خلوصه إلى القلب وصفاؤه عن کدرات العوارض؛ الودّ، وله اسم إلهی وهو الودود، والثالث العشق، وهو إفراط المحبّة، والرابع الهوى، وهو استفراغ الإرادة فی المحبوب والتعلق به فی أول ما یحصل فی القلب.
«الحبُ أعظمُ شهوةٍ وأکملها» (ابن عربی)
الحُبُّ لغةً “نَقِیضُ البُغْضِ. والحُبُّ الودادُ والـمَحَبَّةُ، وکذلک الحِبُّ بالکسر.. وأَحَبَّهُ فهو مُحِبٌّ، وهو مَحْبُوبٌ.. والـمَحَبَّةُ أَیضًا: اسم للحُبِّ”[1].
ماهیّة الحب
کما فی معظم المفاهیم والمصطلحات التی یخوضها فی فلسفته، یستند ابن عربی فی تعریف الحب وأصله وسببه على ما ورد فی القرآن والحدیث الشریف. فمن المعروف أنّ منهج ابن عربی یقوم على تأویل عمیق ذی بعد باطنیّ لآیات القرآن والسنة النبویة وما تحتویه من أحادیث، وبذلک فإنّ الحب عند ابن عربی مقامٌ إلهیّ، وهو کذلک فی أدبیات المتصوّفین. فقد نسب الله الحبّ إلى نفسه، فمن أسمائه الوَدود، وهو المحبّ کما یرد فی آیات کثیرة فی القرآن: {قل إن کنتم تحبون الله فاتبعونی یحببکم الله}. وترد آیات یُذکر فیها حب الله لعباده من المتطهرین، والتوابین، والمتوکلین، والصابرین، وغیرهم ممن تحققوا بسمات حسنة. وفی الحدیث القدسیّ “ما تقرّب المتقربون بأحب إلیّ من أداء ما افترضته علیهم، ولا یزال العبد یتقرب إلیّ بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته کنت سمعه الذی یسمع به وبصره الذی یبصر به”. ویرد فی الحدیث القدسیّ أیضًا “وجبت محبتی للمتحابین فیّ”. فی المقابل نفى الله عن نفسه حبَّ قوم اتسموا بصفات لا یحبها، فالأصل أنه لا یحب ما تحققوا به وأحبّ زوال تلک الصفات، فالله} لا یحبّ الظالمین {و}لا یحبّ المعتدین {و}لا یحبّ کلّ مختال فخور {و} لا یحبّ المسرفین}. لذا، فإنّ أصل المحبة عند ابن عربی هو المحبة الإلهیة، وکلّ مظاهر الحب المنسوبة إلى الإنسان هی من أصل تلک المحبة الإلهیة، یقول ابن عربی:
الحب یُنسب للإنسان والله / بنسبة لیس یدری علمنا ما هی
الحب ذوقٌ ولا تُدرى حقیقته / ألیس ذا عجب والله والله
لوازم الحب تکسونی هویتها / ثوب النقیضیْن مثل الحاضر الساهی
بالحب صح وجوب الحق حیث یُرَى / فینا وفیه ولسنا عین أشباه
أستغفر الله ممّا قلت فیه وقد / أقول من جهة الشکر لله[2]
وبذلک فإنّ الحب عند ابن عربی -وإن کان معقول المعنى- فإنه لا تُدرک حقیقته، کونه حقیقة إلهیة، فهو من المعلومات التی لیس بالإمکان حدّها والإحاطة بها، یدرکها من قامت به صفة المحبّة بالذوق. ولمقام المحبة عند ابن عربی أربعة ألقاب، أولها الحبّ، وهو خلوصه إلى القلب وصفاؤه عن کدرات العوارض فلا غرض له ولا إرادة مع محبوبه، واللقب الثانی الودّ، وله اسم إلهی وهو الودود، والثالث العشق، وهو إفراط المحبّة، ویذکر ابن عربی أنّ اسم العشق لا یطلق على الله کما هو الحال فی الودّ والودود، وإن کان الله قد وصف نفسه فی الخبر بشدّة الحب، والعشق التفاف الحب على المحب حتى خالط جمیع أجزائه، واللقب الرابع الهوى، وهو استفراغ الإرادة فی المحبوب والتعلق به فی أول ما یحصل فی القلب ولیس لله منه اسم[3].
وللحبّ عند ابن عربی سببان، هما الجمال والإحسان؛ فأمّا الجمال فهو من حکم اسم الله “الجمیل” الذی وصف به نفسه، والذی تجلّى فی خلقه العالمَ على صورته، فکان العالم جمیلًا على صورة الله. فالجمال محبوبٌ لذاته. ویتعمّق ابن عربی فی فلسفته للجمال کسبب للحبّ، موصِلًا إیاه بحضرة الخیال، أی عالم المِثال، وبالتجلیات الإلهیة فی الکون وعالم الصور، ما لا لیس بالإمکان الخوض فیه فی هذا المدخل حول الحبّ. وأما الإحسان فهو حبّ العباد لإحسان الله، یقول ابن عربی: “وما ثمَّ إحسان إلا من الله، ولا محسن إلا الله، فإن أحببت الإحسان فما أحببت إلا الله، فإنه المحسن، وإن أحببت الجمال فما أحببت إلا الله تعالى فإنه الجمیل..”[4]. ویرى العدید من الصوفیین أنّ التصوف هو تحقیق مقام الإحسان، الذی جاء فی الحدیث الشریف أنه، أی الإحسان،“أن تعبد الله کأنک تراه، فإن لم تکن یراه فإنه یراک”. فالإحسان هو المقام الذی یلی الإیمان الغیبی الاعتقادی، لیصبح الإیمان عند مستوى الإحسان إیمانَ شهودٍ وتحقیق “کأنک تراه”[5].
الحب سبب الوجود ـ سریان الحب فی الوجود
ینسب ابن عربی للحقیقة الإلهیة المسمّاة بالحب سبب وجود العالم وإظهاره، وهو ما یأتی صریحًا فی نص ورد فی کتابه “التنزلات الموصلیة”، وهو نصّ یبدو استفاضة وتفسیرًا فی حدیث قدسیّ یتداوله الصوفیون فی أدبیاتهم ویؤسس علیه ابن عربی جلّ فلسفته فی الحبّ، هذا الحدیث هو: “کنتُ کنزًا مخفیًا فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ فتعرّفتُ إلیهم فعرفونی”. ویذکر ابن عربی أنه حدیث ثابت بالکشف[6] لا بالنقل عن رسول الله صلى الله علیه وسلم. یقول ابن عربی:
“الحمد لله الذی جعل الهوى حَرَمًا تحجُّ إلیه قلوب الأدبا، وکعبة تطوف بها ألباب الظرفا، وجعل الفِراق أمَرَّ کأسٍ تُذاق، وجعل التلاق عذبَ الجنى طیّبَ المذاق، تجلى اسمه الجمیل سبحانه فألهى الألباب، فلما غرقت فی بحر حبّه أغلق دونها الباب، وأمر أجناد الهوى، أن یضربوها بسیوف النوى، فلما طاشت العقول وقیّدها الثقیل، ودعاها داعی الاشتیاق، وحرّکتها دواعی الأشواق، رامت الخروج إلیه عشقًا، فلم تستطع، فذابت فی أماکنها الضیقة ومسالکها الوعرة وجدًا وشوقًا، واشتدّ أنینها، وطال حزنها وحنینها، ولم یبقَ إلا النَفَس الخافت، والإنسان الباهت، ورثى لها العدو والشامت، فأذابها الأرق، وأتلفها القلق، وأنضجتها لواعج الحُرَق، وفتک فیها الفراق بحسامه، وجرّعها مضاضة کأس مدامه، واستولى علیها سلطان البیْن، فمحق فیها الأثر والعین، ونزلت بفنائها عساکر الأسف، وجُرّدت علیها سیوف التلف، وأیقنت بالهلاک، وعاینت مصارع الهُلّاک، وما خافت ألم الموت، وإنما خافت حسرة الفوت، فنادت یا جمیل یا مِحسان، یا من قال: }هل جزاء الإحسان إلا الإحسان{، یا من تیّمنی بحبه، وهیّمنی بین بعده وقربه، تجلیتَ فأبلیت، وعُشقتَ فأرّقت، وأعرضتَ فأمرضتَ، فیا لیتک مرّضت، وأفرطت فقنّطت، وأسّست فأسّست، وأیّست فأیأست، وقربت فدنوت، وبعدت فأبعدت، وأجلست فآنست، وأسمعت فأطعمت، وکلمت فأکلمت، وخاطبت فأتعبت، وملکت فهتکت، وأملکت فأهلکت، وأتْهمت ففرحت، وأنجدت فأترحت، ونوهت فولّهت، وزینت فأفتنت، وألّهت فتیّهت، وفوّهت فتوّهت، وغلطت فنشطت، وعززت فعجّزت، وأسلبت فأغفلت، وأمسکت فنسکت، ووسعت فجمعت، وضیقت ففرقت، وأحرمت فأحلت، وأحللت فحرمت، وإذا تحققتُ لم أعشق، وإذا عشقتُ لم أُهجَر، وإذا هُجِرتُ لم أُقبَر، وإذا قُبِرتُ لم أُنشَر، وإذا نُشرتُ لم أُحشَر، وإذا حُشِرتُ لم أُعتَب، وأذا عوتبتُ لم أُزجَر، وإذا زُجرتُ لم أُطرَد، وإذا طُرِدتُ لم تُسعَّر بی النار التی فیها على الحجب أن أنظر، فلما سمع ندائی، وتقلبی فی أنواع بلائی، بادر الحجَّاب، إلى رفع الحجاب، وتجلى المراد، فَنعِمَت العین والفؤاد، جعلنا الله وإیاکم ممّن عشق ولحق، وصبر فظفر”[7].
کان الله ولا شیء، وفی الحدیث “کان الله فی عماء”، وهذا العماء عند ابن عربی هو “جوهر العالم”، فأحبَّ أن یُعرَف، فتحققت المحبة حقیقةً إلهیة وسببًا فی الظهور والتعرّف. یقول ابن عربی: “الحبّ لا یتعلّقُ إلا بمعدومٍ یصحّ وجوده”، أی حین کان الخلق فی العماء، جوهر العالم، ولکن صحّ وجودهم وتحقق بالمحبة، إذ لم یکن علم الله بالعالم إلا علمه بنفسه، فلم یکن فی الوجود إلا هو. یقول ابن عربی: “إنّ الحب لا یتعلق إلا بمعدومٍ یصحّ وجوده، وهو غیر موجود فی الحال، والعالم مُحدَث، والله کان ولا شیء معه، فکان الحبّ أصل سبب وجود العالم، والسماع سبب کونه، وبهذا الحب وقع التنفس، وأظهر العالَمُ نَفَس الرحمن، لإزالة حکم الحب، وتنفّس ما یجد المحب، وخرج ذلک النفَس عن أصل محبة فی الخلق، الذی یرید أن یتعرف إلیهم فیعرفوه، فکان العماء المسمى بالحق المخلوق به، فکان ذلک العماء جوهر العالم، فقبل صور العالم وأرواحه وطبائعه کلها، وهو قابل لا یتناهى، فالعماء من تنفسّه، والصور المُعبَّر عنها بالعالم من کلمة کُن، فالمحبة مقامها شریف، وهی أصل الوجود”[8].
لقد ظهر ما ظهر فی الکون على صورة الله، حیث کما قلنا لم یکن علمه بالعالم إلا علمه بنفسه، فلم یکن فی الوجود إلا هو: “وصورة العالم على قدر الحضرة الإلهیة الأسمائیة، فما فی الحضرة الإلهیة اسم إلهی إلا وعلى قدر أثره فی نشء العالم، من غیر زیادة ولا نقصان، فخلق الله العالم فی غایة الإحکام والإتقان.. فأخبر أنه تعالى خلق آدم على صورته، والإنسان مجموع العالم، فطابق العالم الأسماء الإلهیة، وکأنه کان باطنًا فصار بالعالم ظاهرًا، فعرف نفسه شهودًا بالظاهر بقوله: فأحببتُ أن أُعرَف”[9].
یرتبط هذا الحدیث عند ابن عربی حول الحب بعقیدة التجلی عنده، وبنظریته حول أسماء صفات الذات الإلهیة وتجلیاتها فی الوجود، فما من اسم إلهی إلا وله تجلٍّ وظهور فی الموجودات، فتجلى اسم الله “الجمیل”، کما یذکر ابن عربی فی النص أعلاه المقتبس من “التنزلات الموصلیة”، فکان سببًا للحبّ. وورد فی الحدیث “إن الله جمیل یحب الجمال”، ولم یکن جمیل فی الوجود إلاه فأحب نفسه، وظهر اسمه الودود فأحب نفسه، وحکم بالاسم على الموجودات: “فإنه تعالى یحب الجمال، وما ثم جمیل إلا هو، فأحبّ نفسه، ثم أحب أن یرى نفسه فی غیره، فخلق العالم على صورة جماله، ونظر إلیه فأحبّه حبّ من قیّده النظر، فما خلق الله العالم إلا على صورته، فالعالم کله جمیل، وهو سبحانه یحبّ الجمال.. ومن هنا تعلق الأسماء الإلهیة، فتسمّى تعالى بالودود، فهو تعالى ثابت المحبة من کونها ودًا، کیف لا یحب الصانع صنعته؟! ونحن مصنوعاته بلا شک، فإنه خالقنا، وخالق أرزاقنا ومصالحنا، والصنعةُ مُظهِرةٌ علمَ الصانع لها بالذات، واقتدارَه وجماله وعظمته وکبریاءه، فإن لم نکن، فعلى من؟ وفیمن؟ وبمن؟ فلا بد منا ولا بد من حبه فینا، فهو بنا ونحن به، وکما قال صلى الله علیه وسلم فی ثنائه على ربه: “فإنما نحن وبه وله فالود حضرة العطف”[10].
والمحبة الإلهیة للخلق عند ابن عربی هی أن یحبّ الله خلقه لهم ولنفسه، فحبّه لهم لنفسه هو فی قوله “أحببتُ أن أُعرَف فخلقت الخلق فتعرفت إلیهم فعرفونی”، فقد خلق الخلق لیعرفوه، ویسبّحوه ویثنوا علیه، فالعالم کله عند ابن عربی فی مقام الشهود والعبادة ـ }وإن من شیء إلا یسبّح بحمده{ ـ إلا کل مخلوق له قوه التفکیر “ولیس إلا النفوس الناطقة الإنسانیة والجانّیة خاصة، من حیث أعیان أنفسهم لا من حیث هیاکلهم، فإنّ هیاکلهم کسائر العالم فی التسبیح له والسجود، فأعضاء البدن کلها بتسبیحه ناطقة، وهذا کله من حکم حبّه إیانا لنفسه”. وأما حبّه لخلقه لهم، أی لأجلهم، فهو من تعریفه لهم إلى طریق صلاحهم وإلى الأدله والسبیل الى معرفته[11].
وحبّ الله لعباده لیس مُحدَث بل قدیم أزلی، لا یتصف ببدء أو نهایة أو غایة، یقول ابن عربی: “عین محبته لعباده عین مبدأ کونهم، متقدمیهم ومتأخریهم إلى ما لا نهایة له، ونسبه حب الله لهم نسبة کینونته معهم أینما کانوا، فی حال عدمهم وفی حال وجودهم، فکما هو معهم فی حال وجودهم، هو معهم فی حال عدمهم، لأنهم معلومون له، وهو مشاهد لهم مُحبّ فیهم، لم یزل ولا یزال، لم یتجدّد علیه حکم من لم یکن علیه، بل لم یزل مُحبًا خلقه کما لم یزال عالما بهم، فقوله: “فأحببت أن أُعرف” تعریفًا لنا مما کان الأمر علیه فی نفسه، کل ذلک کمالًا یلیق بجلاله، لا یُعقل تعالى إلا فاعلًا خالقًا، وکل عین فکانت معدومة لعینها معلومة له محبوبًا له إیجادها، فکما أنه لا أول لوجوده سبحانه، فلا أول لمحبته عباده سبحانه، وذکر المحبة یحدث عند المحبوب عند التعریف الإلهی لا نفس المحبة، ومن وجه آخر إذا قلنا: إنّ للحب الإلهی بدءًا، فبدؤه النفس الإلهیّ عن رؤیة المحبوب، فصِف الحب بما شئتَ من حادث وغیره، لیس الحب سوى عین المحب، فما فی الوجود إلا محب ومحبوب“[12].
ما لا یُعوَّل علیه فی الحب
أخیرًا، فإن أفضل ما تُختتم به تلک المقدمة حول الحبّ عند ابن عربی هو مقولات فی الحب وردت فی رسالته «ما لا یُعوّل علیه» والتی أدرج فیها الکثیر من الحِکَم المختزلة والمنطویة على عمق ودرایة شاملة للحیاة والطریق الصوفیة، وسنحاول تقدیم شرح مختصر لتلک المقولات فی الحب، کونها توجز ما سبق وتجمع تشعّبات فلسفة ابن عربی فی الحبّ وتبسّطها[13]:ibn-2
ـ کل محبة لا یُؤْثِر صاحبها إرادة محبوبه على إرادته فلا یُعوَّل علیها: فالمحب مَن وافقت إرادته إرادة المحبوب، ولا تحقق للحب إلا بذلک، وعلامة الحب الطاعة والاتباع، وغیر ذلک فلیس بحبّ: }قلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللَّهُ{.
ـ کل محبة لا یلتذ صاحبها بموافقة محبوبه فیما یکرهه فی نفسه طبعًا لا یعوَّل علیها: فالأصل أن یُفنی الحبُّ المحبَ عن نفسه، وأن توافق إرادته إرادة محبوبه، وإن کانت إرادة محبوبه فیما یکره المُحبّ.
ـ کل حبّ لا ینتج إحسان المحبوب فی قلب المحبّ لا یُعوَّل علیه: فالإحسان سبب للحبّ، إن انعدم زال حکم الحب، فإن لم یشهد المحب إحسانًا من المحبوب فی قلبه، فلا محبَّ ولا حبّ.
ـ کل حب یُعرف سببه فیکون من الأسباب التی تنقطع لا یُعوَّل علیه: فأسباب الحب جمال وإحسان، والجمال إما مطلق وإما عرضیّ، والحب الذی یتعلق بأسباب تنقطع، أی بأسباب فانیة لا تحمل صفة الدوام والاستمرار، مثل الجمال العرضیّ والأسباب المادیة، لیس بحبّ.
ـ کل حبّ یکون معه طلب لا یُعوَّل علیه: فالأصل فی الحبّ التجرد عن الطلب والأسباب، والموافقة التامّة لإرادة المحبوب، والطلب من الأسباب التی تنقطع وتنتهی بتحقیق الطلب، وذلک لیس بحبّ.
ـ کل حبّ لا یتعلق بنفسه وهو المسمى حبّ الحبّ لا یُعوَّل علیه: فالأصل حبّ الحبّ، وحبُّ بلا حبٍّ للحب ینفی عن صاحبه ذوقَ الحبّ والشرب من بحره، فمن شرب شراب الحب أحبَّ الحب، وطلب المزید منه، وذلک هو التعلق بالمحبوب المرتبط بالضرورة بالتعلق بالحب وحب الحب لذاته.
ـ کل حب لا یفنیک عنک ولا یتغیر بتغیر التجلی لا یُعوَّل علیه: فقلب المحبّ ککأس الشراب الشفاف یتلوّن بحال المحبوب ولونه وتجلیه علیه، وذاک فناء المحبّ عن نفسه، فالحبّ الذی لا یتغیر بتغیر تجلی المحبوب هو حال القلب الذی وقف عند تجلی واحد وبقی علیه، ولم یتلوّن بتجلیات المحبوب المتغیرة، فهذا أسیر التجلی، أو الصورة الواحدة، ولیس بمُحبٍّ.
ـ کل حبّ تبقى فی صاحبه فضلة طبیعیة لا یعوَّل علیه: والفضلة هی البقیة من الشیء، والأصل فی الحب فناء المحب عن نفسه فی محبوبه، فلا شیء منه ولا بقیة من طلب أو هدف أو رغبة.
ـ کل شهوة غیر شهوة الحب لا یُعوَّل علیها: فشهوة الحب لا تنقطع کما لا تنطفئ لوعته ولا یسکن شوقه، والمحبّ فی طلب دائم لمحبوبه، وتوافق تلک المقولة وتتمّمها مقولة أخرى لابن عربی هی “کل شوق یَسکُن باللقاء لا یُعوَّل علیه“.
ـ المحبة إذا لم تکن جامعة لا یعوَّل علیها: بمعنى أن یجمع المحب صفات المحبین من فناء عن أنفسهم وعدم تعلق حبهم بطلب من المحبوب، وتعلق حبهم بحبّ الحب، والمحبة الجامعة هنا تشیر أیضًا إلى حبّ العالَم بما فیه من خلق وموجودات، کون العالم جمیل خلقه الله على أحسن وأکمل صورة، والله جمیل یحبّ الجمال، وتلک هی جمعیة الحب، والله أعلم.
الهوامش
[1] ابن منظور، لسان العرب، القاهرة: دار المعارف، د.ت.، ص ص 742 – 743.
[2] محیی الدین ابن عربی، الفتوحات المکیة، تقدیم: نواف جراح، المجلد الثالث، الباب الثامن والسبعون ومائة (فی معرفة مقام المحبة)، بیروت، دار صادر، 2004، ص ص 371 – 385.
[3] السابق نفسه.
[4] محمود محمود الغراب، الحب والمحبة الإلهیة: من کلام الشیخ الأکبر محیی الدین ابن العربی، دمشق، مطبعة نضر، ط2، 1992، ص ص 33 – 34.
[5] أنظر/ی: التصوف مقام الإحسان من الإسلام، موقع التصوف الإسلامی، على الرابط التالی: (http://www.islamic-sufism.com/article.php?id=1344)
[6] الکشف والمکاشفة من المصطلحات الصوفیة التی تعنی “شهود الأعیان، وما فیها من الأحوال فی عین الحق، فهو التحقیق الصحیح بمطالعة تجلیات الأسماء الإلهیة”، أنظر/ی: معجم اصطلاحات الصوفیة، تصنیف عبد الرزاق القاشانی، تحقیق وتقدیم وتعلیق: عبد العال شاهین، القاهرة، دار المنار، 1992، ص 346.
[7] من کتاب التنزلات الموصلیة، أنظر/ی: محمود الغراب، مرجع سابق، ص ص 8 – 9.
[8] محمود الغراب، مرجع سابق، ص ص 12 – 13.
[9] السابق نفسه.
[10] السابق، ص ص 13- 14.
[11] ابن عربی، مرجع سابق، ص 380.
[12] محمود الغراب، مرجع سابق، ص 17.
[13] لم نعثر على کتاب محقق لرسالة “ما لا یُعوَّل علیه ” لابن عربی، رغم أن الرسالة من المعروف ومن المحقق أنها منسوبة للشیخ الأکبر، غیر أنا عثرنا على الرسالة کمخطوطة على موقع مکتبة جامعة أم القرى على الرابط التالی: (http://libback.uqu.edu.sa/hipres/SCRIPT/ind16163-22.pdf)